مقدمة
كان العقل البشري يجد طريقا للفكر إما مع الدين ، محاولا فهم نصوص المقدسة، و إما خارج الدين، و تعتبر الفلسفة من أطرف الجوانب فى الفكر البشرى، لأنها تتبع محاولات العقل الإنسانى من أجل فهم الحياة و ما وراء الحياة. و النظر فى العلوم الفلسفة لم يأت به نص من الكتاب أو السنه بل على العكس جاءت السنة برفضه. و النظر فيها يؤدى إلى اعتزاز كل ذى حجة بحجته.
و خطت الأفكار الفلسفية خطواتها الأولى فى العالم منذ أوائل القرن السادس قبل الميلاد، و كانت هناك مراكز أربعة ترعرعت فيها هذه الأفكار الفلسفية، و كانت تلك المراكز تمثل العالم المتمدين آنذاك، و هى الهند و الصين و فارس و اليونان. [1]
البحث
أ. سيرة أبى نصر الفارابى
إن الفارابى هو فيلسوف مسلم. لم يصل إلى مكانته فى الفلسفة الإسلامية أى فيلسوف آخر، و لهذا عرف فى تاريخ الفكر بأنه " المعلم الثانى" أما المعلم الأول فهو أرسطو.[2] و السبب المباشر الذي استحق به الفارابى هذا اللقب هو أن التراجم لعلوم العوائل فى المراحل المبكرة للترجمة لم تكن مهذبة محررة حتى زمن فيلسوفنا، فالتمس منه الملك " منصور بن نوح السمانى" أن يجتمع تلك التراجم و يجعل من بينها ترجمة ملخصة محررة مذهبة ، مطابقة لما عليه الحكمة فاجابها الفارابى و فعل كما أراد، و سمي كتابه بالتعليم الثانى ، فلذلك لقب بالمعلم الثانى.[3]
لقد كان الفارابى عصاميا في حياته، لم ينشأ في بيئة مرهفة كما كان شأن الكندى. بل نشأ فقيرا، و لكن العلم رفع شأنه و أعلى قدره ، حتى أصبح مقربا من الأمير سيف الدولة الحمدانى أمير حلب. و أنه كان زكى النفس متجنبا للدنايا مقتنعا من الدنيا بما يملك عليه حياته، يسير سيرة الحكماء. و كان هادئ الطبع، عاكفا على التأمل و النظر غير مكترث بهيئته، عاش فى دولة العقل ملكا وفى العالم المادى مملوكا. اشتغل بالعلم منذ صباه الباكر، و قد استحوذت علوم الأوائل على عقله، فطلبها من أساتذتها، فتتلمذ على يد يوحنا بن حيلان، كما تتلمذ على بعض أساتذة العلوم العربية فكان يجتمع بأبى بكر بن السراج ليقرأ عليه صناعة النحو . و أما الرواية التى تقرر أنه اتقن سبعين لغة ، هي جميع لغات الدنيا، فهى مرجوحة، و العقل يتوقف فى قبولها.[4]
و قد كتب الفارابى أكثر من مائة كتاب نصفها تقريبا نقد و شروح و تعليقات على أبحاث أرسطو، و أما الباقى فدراسات مبنكرة، و هناك حوالى خمسة و عشرين كتابا من كتب الفارابى لا تزال مخطوطة أو مدونة فى رقاع. [5]
ب. الفارابى و فلسفته
1. المنطق
شغل المنطق جزاءا مهما من فلسفة الفرابى دراسة و تحليلا و تأليفا. و المنطق لدى الفارابى من حيث موضوعه ينقسم قسمين، هما : التصورات و التصديقات . و القسم الأول يشمل المعانى و الحدود ، و الثانى يشتمل على مباحث القضايا و الأقيسة و البراهين و كل واحد من التصور و التصديق إما أن يكون بدهيا، و إما أن يكون نظريا، و الأول لا يحتاج إلى نظر و أعمال الفكر، بخلاف الثانى. والتصور البدهيه هي " معان ظاهرة مركوزة فى الذهن " كمعنى " الوجوب" و " الوجود" و" الأمكان" و هى أمور لا يمكن البرهنة عليها، لأنها لا توصف بصدق و لا كذب، بل نبه الغافل عنها إلى معانيها.[6]
و المنطق عند الفارابى ليس وسيلة لإدراك المعرفة ، وإنما هو الحصول على المعرفة، و هو ليس طريقا لإدراك الحقائق، و إنما هو نفس إدراك الحقائق. [7]
و يرى الفاربى أن جميع المباحث المنطقية التىتسبق البراهن ليست إلا تمهيد له لأنه المقصود ، إذ به نستطيع الوصول إلى قوانين علم ضرورى يمكن تطبيقه على جميع المعارف، و لعل الفارابىيقصد بالقوانين هنا : قوانين الفكر الأساسية و هي قانون الذاتية و قانون عدم التناقص و قانون الثالث المرفوع. و عنده أن قانون عدم التناقض هو أعلى القوانين أعنى : أن الشيء و نقيضه لا يصدقان معا و لا يكذبان معا، بل إذا صدق أحد هما كذب الآخر و العكس صحيح.
و يري الفالرابى أن المعانى الكلية لها وجود سابق على جزئياتها فى العالم المفارق كما يرى أن لها وجودا عرضيا ضمن الأفراد ولكنه زاد عليهما فقرران المعانى الكلية من حيث تصور الذهن لها توجد بعد الأفراد بعملية التجريد، فكأن الجزئى حينئذ هو المنزع الخارجى للمعنى الكلى.هذا من ناحية موضوع المنطق كما يرى الفاربى ، و أما من ناحية ثمرته فإنه يقرر أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل و المعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان و الألفاظ، فكل ما يعطيه علم النحو من القوانين في الألفاظ ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها فى المعقولات.[8]
2. برهان الفارابى للتدليل على وجود الله
و قد أضاف الفارابى و تبعه ابن سينا برهانا جديدا للتدليل على وجود الله، و قد بني هذا البرهان على فكرة الممكن و الواجب، فقال أن كل موجود إما ممكن الوجود أو واجب الوجود، و ممكن الوجود لا بد من علة تتقدم عليه ترجح وجوده و تقرره و تخرجه إلى الوجود، و العلل هذه لا يمكن أن تتسلسل إلى ما لا نهاية بل لا بد أن تنتهى إلى موجود واجب الوجود لا عة لوجوده.[9]
و يؤثر الفارابى فكرة أريسطو الذى قال بأن الله لا يعلم عن الجزئيات أى أن مفرفة الله لا يمثله معرفة الإنسان . فالله عالم بالكلى، أما لمعرفة الجزء فيحتاج إلى الحس. و احتج الفارابى بقول الله تعالى[10] " سُبْحَانَ رَبَّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُوْنَ".[11]
3. الصدور
إذا أردنا أن نعرف رأى الفارابى فىالمقابلات الدينية لنظرية الصدور بالمعنى الفلسفى حتى يمكن للعقل أن يبحث عن نطاق الالتقاء بين المصدرين : المصدر الدينى و المصدر الفلسفى، فإننا نلاحظ أنه يقرر أن هناك عوالم ثلاثة فى نظر الدين، عالم الربوبية و عالم الأمر و عالم الخلق. فالعالم الأول ليس فيه إلا الواحد المطلق " الله" و من ملاحظة هذا الواحد لذاته تصدر قدرته، و نتيجة تأمل الواحد لذاته و قدرته معا يصدر "العلم" يقول الفارابى فى تصوير هذا العالم: لحظت الأحدية نفسها فكانت قدرة، فلحظت القدرة فلزم الغلم الثانى ، و هناك أفق الربوبية.
أما العالم الثانى فهو الذى يلى العالم الأول الذى بدأ يتكثر اعتبارا من لحظ الاحدية لذاتها و إن كانت هذه الكثرة اعتبارية و ليست حقيقية و هو فى نفس الوقت متصل بطرف أدنى هو عالم الخلق المتكثر كثرة حقيقية . و عالم الخالق هو العالم السفلى و كثرته كثرة حقيقية و هو مجال تنفيذ الأحكام الالهية التى تصدر عن العالم الأول بواسطة العالم الثانى.[12]
4. النفس
ثحدث الفارابى عن النفس من حيث علاقتها بالجسم ثم من حيث قواها أما من الحيثية الأولى فقد اعتبرها كمالا له. فهر بدونها مادة و هى فيه مبعث النشاط و الحركة و الحياة. و أما من الحيثية الثانية فقد قرر أن قواها مراتب وإذا أردنا أن نرتبها ترتيبا تصاعديا بدأنا من القوة الغاذية ثم الحاسة ثم المتخيلة ثم الناطقة.
و يرى الفارابى أن النفس لا تخلد لديه إلا إذا وصلت إلى مرتبة من الصفاء تؤهلها إلى الاتصال بمثيلاتها ولا يكون الخلود حينئذ إلا لنفوس الكلية و ليس لنفس كل فرد على حدة.و هو بذلك يخالف ما قرره الدين من خلود النفس حتى تلقى جزاءها فى برزخها ثم فى الحياة الآخرة.[13]
5. المعرفة
إن للفارابى رأيين متعارضين فى المعرفة، هما حسية و عقلية . فالحس يدرك من الوجود ظاهره المادى بمشخصاته المختلفة من كيف و كم و وضع و أين . و العقل يدرك من الوجود معناه الثابت ، يدرك ما هيات الأشياء غير ملابسة لأوصافها المادية.[14]
6. النبوة
يرى الفارابى أن النبوة تقوم على أساس نفسى. فاهتدى إلى نظرية اعتقد أنها صحيحة فى حد ذاتها. و تقوم هذه النظرية على أن القوة المتخيلة متى كانت صحيحة فى الأنسان و كانت المحسوسات الواردة عليها من الخرج غير مستولية عليها استيلاء يستغرقها و لم تخضع هذه المخيلة لقوة الناطقة فإنها يمكن أن تطلع على ما فى العقل الفعال من علوم و معارف.[15]
و النبوة أو الوحي عنده يقوم على الدعائم الميتافيزيقية ، و هى القول العشرة التى بدأت من فيض الله من العقل الأول إلى العقل العاشر أو المسمى با لعقل الفعال. و أن هذ العقل له تأثبر فى جميع الموجودات السفلية .[16]
7. المدينة الفاضلة
إن المدينة الفاضلة فى نظر الفاربى تقوم على أساس ضرورى من الاجتماع الأنسانى. و كان للدين الأسلامى أثر واضح فى تدعيم هذا الأسس. و من الأسس الهامة التى يقوم عليها نظام المدينة الفاضلة " التعاون " " التام بين أفرادها.[17]
فالمدينة عند الفارابى كالجسد، فمنها الرأس و اليد الرجل و الجوارخ الأخرى التى استحقت الواجبة لكلها. و أهم ما فى الجسد هو الرأس، لأنه الذي يحرك الجوارخ. و أما الرأس استوله القلب. كذلك المدينة. فأهم ما في المدينة هو رئيس المدينة. فرئيس المدينة لازم أن يكون الأعلم و الأحسن من الأخرى.[18]
8. الأخلاق
لقد اهتم الفارابى أيما اهتمام بوضع القوانين الأساسية التي ينبغى أن يكون عليها السلوك الإنسانى . و ثمرة الأخلاق عند الفارابى هى تحقيق السعادة للبشر، و هذه السعادة ينبغى أن تطلب لذتها.[19]
الخاتمة
إن الفارابى هو فيلسوف مسلم. لم يصل إلى مكانته فى الفلسفة الإسلامية أى فيلسوف آخر، و لهذا عرف فى تاريخ الفكر بأنه " المعلم الثانى".
يرى الفارابى إن كل موجود إما ممكن الوجود أو واجب الوجود. و ممكن الوجود لا بد من علة تتقدم عليه ترجح وجوده و تقرره و تخرجه إلى الوجود، و العلل هذه لا يمكن أن تتسلسل إلى ما لا نهاية بل لا بد أن تنتهى إلى موجود واجب الوجود لا عة لوجوده. و يرى الفارابى أن النبوة تقوم على أساس نفسى. فاهتدى إلى نظرية اعتقد أنها صحيحة فى حد ذاتها. و المدينة عند الفارابى كالجسد، فأهم ما في المدينة هو رئيس المدينة.
المراجع
القآن الكريم.
التارنصار، عبد، محمد. فى الفلسفة الاسلامية قضايا و مناقشات الجزء الأول. القاهرة: مكتبة الانجد المصرية. 1982.
شلبى ،أحمد. موسوعة الحضارة الاسلامية. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية. 2000.
بن الحاج حسين، عبد التكور. النبوة بين المتكلمين و الفلاسفة.
نسوتيون، هاشم شه. فلسفة الاسلام. جاكرتا: Gaya Media Pratama. 2005
[1] الدكتور أحمد شلبى، موسوعة الحضارة الاسلامية ( مكتب النهضة المصرية، القاهرة ) 2000 ص. 23
[2] نفس المرجع ، ص. 139
[3] الدكتور محمد عبد التارنصار ، فى الفلسفة الاسلامية قضايا و مناقشات الجزء الاول ( مكتبة الانجد المصرية ) 1983 ص. 77
[5] الدكتور أحمد شلبى ، المرجع السابق، ص. 140
[6]الدكتور محمد عبد التارنصار ، المرجع السابق، ص. 80
[7] الدكتور أحمد شلبى ، المرجع السابق، ص. 140
[9] الدكتور أحمد شلبى ، المرجع السابق، ص. 140
[10] الدكتور هاشم شه نسوطيون، فلسفة الاسلام، ( Gaya Media Pratama , Jakarta ) 2005، ص. 36
[11] سورة الصفات : 180
[13] نفس المرجع، ص. 96
[14] نفس المرجع، ص. 99
[15] نفس المرجع، ص. 113
[16] عبد التكور بن الحاج حسين، النبوة بين المتكلمين و الفلاسفة، ( As. Printer Industries Sdn. Bhd,
[17] الدكتور محمد عبد التارنصار، المرجع السابق، ص. 107
[18] الدكتور هاشمشه نسوتيون، المرجع السابق، ص. 41
[19] الدكتور محمد عبد التارنصار، المرجع السابق، ص. 111
Tidak ada komentar:
Posting Komentar